صافي ناز كاظم
الأستاذ الفاضل فاروق عبد القادر، صديق وزميل مرحلة عمرية وتاريخية في الساحة الثقافية على أرض مصر، بيننا مودة واحترام متبادل، لكن هذا لم يمنع أن نكون دائماً على طرفي نقيض. أبدو صاخبة ويبدو هادئاً، لكن الحقيقة هي العكس، فأنا لا أتمتع بكل هذا الغليان الذي يجعله لا يطيق رأياً إلا رأيه، ولا يتحمل رؤى سوى رؤاه هو للواقع وللناس وللأدباء والمسرحيين وأهل الثقافة أجمعين. إنه لا يتمثل أبداً حكمة الآية الكريمة «ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى». أقول قولي هذا بمناسبة إعادة إصداره لكتابه: «رؤى الواقع، وهموم الثورة المحاصرة، دراسات في المسرح العربي المعاصر»، عن دار العلوم للنشر والتوزيع. الكتاب وصلني منذ شهر تقريباً، في مقدمته، المؤرخة سبتمبر 2004، إهداء لذكرى سعد الله ونوس: «المسرحي الرائع والصديق الرائع، أهدي هذه الطبعة القاهرية من رؤى الواقع..»، مشيراً في بداية المقدمة، 10 صفحات، إلى أن طبعته الأولى صدرت خارج «القاهرة» عن دار الآداب، بيروت، سنة 1990 .
ورؤى فاروق عبد القادر، التي تمجد نعمان عاشور وسعد الله ونوس، تنزل بالفأس على ثلاثة من أهم رجال المسرح العربي: ميخائيل رومان، ومعين بسيسو، ونجيب سرور. وفاروق له، من غير شك، كل الحرية في أن يحب ويكره كما يشاء له غليانه الصارخ، تحت قناع هدوئه الظاهري وصوته الخفيض، لكن الذي ليس من حقه هو أن يرفع فأسه كذلك ليهوي ـ كأنه الفرعون ـ على رؤوس من يرون غير ما يراه. فصل كامل يضعه فاروق عبد القادر تحت عنوان «منين أجيب ناس، ودراويش نجيب سرور»، لا يكتفي فيه بإساءة فهم فن نجيب سرور، عن عمد أحياناً، وعن عجز في معظم الأحيان، فيعلن غضبه على من أسماهم «دراويش نجيب سرور»، ويحددهم بـ«تلك الحفنة من شباب المسرحيين»، متجاهلاً أن لنجيب سرور «حفنة» أخرى من «شيوخ وشيخات» المسرحيين والنقاد الذين رأوا، دوماً، في نجيب سرور عبقرية مسرحية يتضاءل إلى جوارها تماماً حضرة سعد الله ونوس، وسيادة نعمان عاشور، وغيرهما من النقاد الهواة للمسرح الذي يستشهد بهم لإدانة أعمال نجيب سرور المسرحية، من أول «ياسين وبهية» في الستينيات حتى «ملك الشحاتين» في السبعينيات. لقد أصيب المسرح المصري منذ بدايته بمجموعة من «النقاد»، غير النقاد وغير المسرحيين، الذين تسلطنوا في موقع «الحكماء»، يجيزون ويرفضون من غير علم مسرحي، ومن غير إقرار بأن للمسرح لغته الخاصة التي لا يجوز خلطها مع «قوانين» النقد الأدبي، وأذكر أن واحداً منهم سخر بصلافة عندما سمعني أقول «علم المسرح»، فقال هازئاً: «إيه.. إيه.. علم الرّكَّة وإلا إيه؟». و«علم الرّكَّة» من المصطلحات المصرية التي تعني «الكلام الفارغ». أمثال هؤلاء النقاد، الكبار منهم والصغار، وأولهم وآخرهم، لا يعرفون من «المسرح» إلا «النص»، ورغم اعترافهم بأنه «أبو الفنون»، إلا أنهم ينظرون إليه باستعلاء وفوقية ويحاولون فتح أبوابه بمفاتيح لا تفتح لهم شيئاً، وحين يستعصي عليهم يتهمونه ويرفضون أن يتعلموا بدهية: لكل باب مفتاحه!
يهاجم فاروق عبد القادر مسرح نجيب سرور من جوانبه التي يراها المسرحيون، من أمثالي، مميزاته، فهو يقول: «... هذه الأعمال لا تقدم... سوى مادة خام تتيح للمسرحي، ومن ثم للمتلقي، أن يسقط عليها ما يشاء، وأن يشكلها كما يهوى، وأن يسحبها وراءه إلى حيث يريد». وماذا في ذلك يا سيدي؟. ويحدد «جوهر هذه المادة الخام» بأنها «.. رفض الواقع المعيش بكل جوانبه رفضاً كاملاً مطلقاً» ويصفه: «.. رفض ذو طابع فوضوي وعبثي شامل» لا يكتسب معنى، «.. إلا على أسرة أطباء النفس والعقل وحدهم»، فهل هذا كلام يقوله ناقد أم شاتم لا يتأبى عن لغة المعايرة والتجريح الشخصي؟ يستعرض فاروق عبد القادر رأي فلان وفلان وفلانة، ممن لا علاقة لهم بفن نقد المسرح، في مسرحية نجيب سرور «آه يا ليل يا قمر»، الرائعة الموجعة، التي تم عرضها على مسرح الحكيم في الموسم المسرحي 1967/1968، ويتجاهل تماماً ما كتبته عنها وقتها وتم نشره بمجلة «المصور»، وعدت وأثبته في كتابي «من ملف المسرح المصري في الستينات والسبعينات» صفحة 51، وهو يعلم، بشهادته، أنني المتخصصة بين كل تلك الأسماء «الكبيرة» التي استشهد بها تخويفاً لنا برنينها الذي لا يعني شيئاً في ساحة النقد المسرحي، ويعلم أنني لست «درويشة» لأحد على الإطلاق، لكن لي رأيي النقدي الأمين، الذي لا أرغم عليه أحداً.
رحل نجيب سرور في أكتوبر 1978، كان يسير في الطريق وعندما أراد أن يستريح من السير عاد إلى قريته ومات وهو في السادسة والأربعين من عمره المتعب. تألمنا جميعاً وخذلنا جميعاً ونفينا جميعاً في الداخل والخارج، لكن الضربات عليه كانت أقسى الضربات كلها. وعبّر عن ألمه بشكله الخاص ومنهجه الحياتي الخاص.
وما بدا للبعض حالات «جنون» لم يكن سوى استزراع واع لهيجان مسرحي حاد يحدث قبل جلوسه للتدوين، عندها يختفي «الهيجان» فوراً، وينتظم نجيب سرور جداً، ويسيطر على عمله سيطرة حازمة، ويدهش الذين ظنوا به الظنون بإخراجه عملاً محكماً غاية في وضوح الرؤية مع سمته الغالبة من الفكاهة والتهكم المر والحزن الرقيق العميق، ومن لا يصدقني يراجع آخر أعماله «ملك الشحاتين»، وأرجو أن أعرض كلامي عنها في «الشرق الأوسط» قريباً إن شاء الله.
الأستاذ الفاضل فاروق عبد القادر، صديق وزميل مرحلة عمرية وتاريخية في الساحة الثقافية على أرض مصر، بيننا مودة واحترام متبادل، لكن هذا لم يمنع أن نكون دائماً على طرفي نقيض. أبدو صاخبة ويبدو هادئاً، لكن الحقيقة هي العكس، فأنا لا أتمتع بكل هذا الغليان الذي يجعله لا يطيق رأياً إلا رأيه، ولا يتحمل رؤى سوى رؤاه هو للواقع وللناس وللأدباء والمسرحيين وأهل الثقافة أجمعين. إنه لا يتمثل أبداً حكمة الآية الكريمة «ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى». أقول قولي هذا بمناسبة إعادة إصداره لكتابه: «رؤى الواقع، وهموم الثورة المحاصرة، دراسات في المسرح العربي المعاصر»، عن دار العلوم للنشر والتوزيع. الكتاب وصلني منذ شهر تقريباً، في مقدمته، المؤرخة سبتمبر 2004، إهداء لذكرى سعد الله ونوس: «المسرحي الرائع والصديق الرائع، أهدي هذه الطبعة القاهرية من رؤى الواقع..»، مشيراً في بداية المقدمة، 10 صفحات، إلى أن طبعته الأولى صدرت خارج «القاهرة» عن دار الآداب، بيروت، سنة 1990 .
ورؤى فاروق عبد القادر، التي تمجد نعمان عاشور وسعد الله ونوس، تنزل بالفأس على ثلاثة من أهم رجال المسرح العربي: ميخائيل رومان، ومعين بسيسو، ونجيب سرور. وفاروق له، من غير شك، كل الحرية في أن يحب ويكره كما يشاء له غليانه الصارخ، تحت قناع هدوئه الظاهري وصوته الخفيض، لكن الذي ليس من حقه هو أن يرفع فأسه كذلك ليهوي ـ كأنه الفرعون ـ على رؤوس من يرون غير ما يراه. فصل كامل يضعه فاروق عبد القادر تحت عنوان «منين أجيب ناس، ودراويش نجيب سرور»، لا يكتفي فيه بإساءة فهم فن نجيب سرور، عن عمد أحياناً، وعن عجز في معظم الأحيان، فيعلن غضبه على من أسماهم «دراويش نجيب سرور»، ويحددهم بـ«تلك الحفنة من شباب المسرحيين»، متجاهلاً أن لنجيب سرور «حفنة» أخرى من «شيوخ وشيخات» المسرحيين والنقاد الذين رأوا، دوماً، في نجيب سرور عبقرية مسرحية يتضاءل إلى جوارها تماماً حضرة سعد الله ونوس، وسيادة نعمان عاشور، وغيرهما من النقاد الهواة للمسرح الذي يستشهد بهم لإدانة أعمال نجيب سرور المسرحية، من أول «ياسين وبهية» في الستينيات حتى «ملك الشحاتين» في السبعينيات. لقد أصيب المسرح المصري منذ بدايته بمجموعة من «النقاد»، غير النقاد وغير المسرحيين، الذين تسلطنوا في موقع «الحكماء»، يجيزون ويرفضون من غير علم مسرحي، ومن غير إقرار بأن للمسرح لغته الخاصة التي لا يجوز خلطها مع «قوانين» النقد الأدبي، وأذكر أن واحداً منهم سخر بصلافة عندما سمعني أقول «علم المسرح»، فقال هازئاً: «إيه.. إيه.. علم الرّكَّة وإلا إيه؟». و«علم الرّكَّة» من المصطلحات المصرية التي تعني «الكلام الفارغ». أمثال هؤلاء النقاد، الكبار منهم والصغار، وأولهم وآخرهم، لا يعرفون من «المسرح» إلا «النص»، ورغم اعترافهم بأنه «أبو الفنون»، إلا أنهم ينظرون إليه باستعلاء وفوقية ويحاولون فتح أبوابه بمفاتيح لا تفتح لهم شيئاً، وحين يستعصي عليهم يتهمونه ويرفضون أن يتعلموا بدهية: لكل باب مفتاحه!
يهاجم فاروق عبد القادر مسرح نجيب سرور من جوانبه التي يراها المسرحيون، من أمثالي، مميزاته، فهو يقول: «... هذه الأعمال لا تقدم... سوى مادة خام تتيح للمسرحي، ومن ثم للمتلقي، أن يسقط عليها ما يشاء، وأن يشكلها كما يهوى، وأن يسحبها وراءه إلى حيث يريد». وماذا في ذلك يا سيدي؟. ويحدد «جوهر هذه المادة الخام» بأنها «.. رفض الواقع المعيش بكل جوانبه رفضاً كاملاً مطلقاً» ويصفه: «.. رفض ذو طابع فوضوي وعبثي شامل» لا يكتسب معنى، «.. إلا على أسرة أطباء النفس والعقل وحدهم»، فهل هذا كلام يقوله ناقد أم شاتم لا يتأبى عن لغة المعايرة والتجريح الشخصي؟ يستعرض فاروق عبد القادر رأي فلان وفلان وفلانة، ممن لا علاقة لهم بفن نقد المسرح، في مسرحية نجيب سرور «آه يا ليل يا قمر»، الرائعة الموجعة، التي تم عرضها على مسرح الحكيم في الموسم المسرحي 1967/1968، ويتجاهل تماماً ما كتبته عنها وقتها وتم نشره بمجلة «المصور»، وعدت وأثبته في كتابي «من ملف المسرح المصري في الستينات والسبعينات» صفحة 51، وهو يعلم، بشهادته، أنني المتخصصة بين كل تلك الأسماء «الكبيرة» التي استشهد بها تخويفاً لنا برنينها الذي لا يعني شيئاً في ساحة النقد المسرحي، ويعلم أنني لست «درويشة» لأحد على الإطلاق، لكن لي رأيي النقدي الأمين، الذي لا أرغم عليه أحداً.
رحل نجيب سرور في أكتوبر 1978، كان يسير في الطريق وعندما أراد أن يستريح من السير عاد إلى قريته ومات وهو في السادسة والأربعين من عمره المتعب. تألمنا جميعاً وخذلنا جميعاً ونفينا جميعاً في الداخل والخارج، لكن الضربات عليه كانت أقسى الضربات كلها. وعبّر عن ألمه بشكله الخاص ومنهجه الحياتي الخاص.
وما بدا للبعض حالات «جنون» لم يكن سوى استزراع واع لهيجان مسرحي حاد يحدث قبل جلوسه للتدوين، عندها يختفي «الهيجان» فوراً، وينتظم نجيب سرور جداً، ويسيطر على عمله سيطرة حازمة، ويدهش الذين ظنوا به الظنون بإخراجه عملاً محكماً غاية في وضوح الرؤية مع سمته الغالبة من الفكاهة والتهكم المر والحزن الرقيق العميق، ومن لا يصدقني يراجع آخر أعماله «ملك الشحاتين»، وأرجو أن أعرض كلامي عنها في «الشرق الأوسط» قريباً إن شاء الله.
الشرق الأوسط الثلاثـاء 19 صفـر 1426 هـ 29 مارس 2005 العدد 9618
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق